هل فكرت يومًا في أن الثقافة والهوية واللغة قد تشكل أداة اقتصادية لا تقل قوةً وتأثيرًا عن بقية الموارد الهامة في أي مكان في العالم؟
قد يبدو هذا السؤال غريبًا للوهلة الأولى، ولكن إذا أمعنّا النظر في التحول الذي يشهده العالم اليوم في ظل الثورة المعرفية، فسندرك أنها قد أصبحت أكثر من مجرد أداة للتواصل اللغوي والحضاري، بل مجالات تحمل فرصًا استثمارية كبيرة وتسهم في بناء اقتصادات دول بأكملها.
وفي المملكة العربية السعودية، تتبوأ العربية مكانة خاصة؛ كونها موئل العربية وموطنها الأول الذي يربطها بجذورها وبتاريخها الثقافي وبإرثها الحضاري وبهويتها الأصيلة، ومع تزايد الوعي بأهمية الحفاظ على هذا الإرث اللغوي الذي يحمل في باطنه الهوية والثقافة أصبح الاستثمار في هذا القطاع ذا أهمية كبيرة.
يأتي هذا التحول في النظرة إلى الثقافة والهوية واللغة في إطار التقدم الكبير الذي تشهده المملكة في الأعوام الأخيرة، انطلاقًا من رؤية 2030 التي لم تقتصر على التطور الاقتصادي فحسب، بل شملت تعزيز الهوية والاهتمام باللغة والثقافة عمومًا، وهو ما أكده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بقوله: “بلادنا المملكة العربية السعودية دولة عربية أصيلة، جعلت اللغة العربية أساسًا لأنظمتها جميعًا”، ما يعكس التزام المملكة بالحفاظ على الثقافة والهوية واللغة والاهتمام بهم ووضعهم في قلب كل إستراتيجية وتطور، ويظهر هذا الاهتمام جليًا في تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في 2019؛ بهدف تعزيز مكانة اللغة العربية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وبهذا الصدد تشهد هذه الأيام تشهد المملكة العربية السعودية انعقاد منتدى الاستثمار الثقافي تحت رعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ال سعود حفظه الله.
ويجمع المنتدى صُنّاع القرار والمستثمرين المحليين والعالميين والجهات الثقافية في منصة واحدة؛ لبحث سبل تحويل الثقافة إلى أصول اقتصادية قادرة على جذب الاستثمارات وتوليد العوائد، حيث يتضمن أهداف المنتدى التأكيد على أن الثقافة رأس مال حقيقي؛ مما يضع المملكة في موقع متقدم على خريطة الاستثمار الثقافي عالميًا بالنظر لإرثها اللغوية والثقافة ولمشاريعها واسهاماتها، وعلى رأس هذه الأعمال ما تقوم به وزارة الثقافة من قيادة وتمكين ودعم للاستثمار في المشهد الثقافي.
هذا التوجه لاستضافة وتنظيم هذه المحافل الدولية، و الجهود التي بذلت تجاه الحراك الثقافي كانت حجر الأساس لولادة قطاع الاستثمار في الثقافة، حيث لم يعد هذا المجال مقتصرًا على الأبعاد الثقافية أو التعليمية فحسب، بل أصبح له جانب اقتصادي قوي يدعمه محتوى محلي مبتكر وأهداف إستراتيجية واعدة تفتح آفاقًا جديدة للابتكار والإنتاج، مؤكدةً أن الثقافة والهوية واللغة لم تعد فقط لغة ثقافة ومعرفة وتواصل، بل باتت لغة اقتصاد أيضًا، وكنز قومي، ومصدر ثراء اقتصادي واجتماعي متى ما أعطيت حقها واستثمرت فرصها.
والجدير بالذكر بأن سوق المملكة العربية السعودية يحتوي على نماذج استثمارية رائدة في القطاع الثقافي، أكدت على توجه القيادة الرشيدة بضرورة التنمية والتطوير للمشهد الثقافي، وسعت لإنشاء نماذج استثمارية، وتنفيذ مبادرات ناجحة تؤكد على التحول الحقيقي لهذا القطاع، والاهتمام البارز من الشركات الناشئة والمجموعات الرائدة في القطاع الخاص التي تسابقت للاستثمار فيه، ولعل أبرزها “مجموعة تحدث العربية القابضة”، التي انطلقت كمبادرة لتفعيل الثقافة وتعزيز الهوية والاحتفاء باللغة العربية في الحياة اليومية منذ خمس سنوات توسعت فيها المبادرة من خلال ما تقدمه من أنشطة ومساهمات نقشت اسمها على رأس تلك الشركات المستثمرة في هذا القطاع، إلى أن أضحت أول مجموعة استثمارية رائدة في القطاع الثقافي في المملكة، موظِّفةً في سبيل ذلك العديد من المنتجات والخدمات بغية تعميق ارتباط الشباب بثقافتهم وهويتهم ولغتهم العربية، وكذلك خدمةً للسوق وتلبيةً لاحتياجاته، كما تبرز في هذا السياق أيضًا شركة “ونOne ” التي اهتمت بتوسيع نطاق الاستثمار في اللغة عن طريق مبادراتها في انشاء الصناديق الاستثمارية، مما أسهم بشكل كبير في إنتاج محتوى يعكس الثقافة والهوية الوطنية.
هذا النمو والتطور المتسارع في القطاع يعكس كيف تحولت الثقافة هويةً ولغةً إلى سوق ديناميكي جاذب ومستدام، يوفر فرصًا كبيرة للمستثمرين والشركات الواعدة التي تسعى إلى تقديم حلول مبتكرة؛ لتجسيد رؤية المملكة في التوجه نحو الاقتصاد المعرفي، ودعم التقدم الحضاري، وتعزيز مكانة الثقافة العربية محليًا وعالميًا.
