أُقيمت في معرض الرياض الدولي للكتاب 2025 ندوةً فكرية بعنوان “كيف كُتب تاريخ البشر” أدارها الباحث عبدالله المحيلان، واستضافت المؤرخ والأكاديمي الدكتور قصي التركي، الباحث المتخصص في الحضارات الشرقية واللغات الجزرية، الذي قدم عرضًا كرونولوجيًّا عن تطور مفهوم التاريخ ووسائل تدوينه عبر العصور، وذلك ضمن فعاليات البرنامج الثقافي للمعرض الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة.
واستهل الدكتور قصي التركي حديثه بالعودة إلى الجذور اللغوية لمصطلح “التاريخ”، موضحًا أن أصل الكلمة في اللغات الجزرية القديمة مشتقٌّ من الفعل “ورخ” أو “أرخ”، أي تحديد بداية الشهر القمري، “وهو ما يؤكد الارتباط العميق بين الزمن والكتابة في الحضارات القديمة”، مشيرًا إلى أنّ المصطلح الأوروبي المقابل (History) مصدره الإغريقية ويعني “الاستقصاء”، لكنه يختلف عن مدلوله العربي الذي يقوم على مفهوم التوثيق الزمني المرتبط بالدورة القمرية.
وتوقف التركي عند ما سمّاه “اللغة الجزرية الأم”، موضحًا أن الجزيرة العربية تمثّل الموطن الأول للإنسان العاقل ومسرح الأحداث التاريخية الأولى، وأن اللغات التي انتشرت في بلاد الرافدين ومصر والشام كلها تنحدر من أصولٍ جَزَرية.
وبيّن أن مصطلح “اللغات السامية” لم يعد دقيقًا في الدراسات الحديثة، وأنّ اللغة العربية هي الأصل الجامع الذي تفرّعت منه لغات المنطقة القديمة، والكتابات المسمارية والهيروغليفية كانت أدوات تعبير عن تلك اللغات في مراحلها المختلفة.
وأشار إلى أن الكتب السماوية الثلاثة شكّلت في مراحل مبكرةٍ مصادر أساسية للمؤرخين، وأنّ القرآن الكريم تفرّد بكونه الكتاب الوحيد الذي حُفظ محتواه كاملًا، وأنه وثّق أخبار أقوامٍ لم تُذكر في المصادر الأخرى، مثل ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن تسع عشرة مرة.
وأفاد أن غياب ذكر أقوامٍ كثيرين في التوراة والإنجيل صرف عنهم الدراسات الغربية حتى العصر الحديث، رغم أن النقوش الثمودية المكتشفة في الجزيرة العربية تثبت وجودهم بوضوح.
وتطرّق إلى نشأة علم الآثار في القرن التاسع عشر، مشيرًا إلى أن معظم البعثات الغربية الأثرية كانت ذات طابعٍ استخباراتي ودبلوماسي، وهدفها فهم تاريخ شعوب الشرق للتحكم في حاضرها ومستقبلها.
ودعا إلى ضرورة أن يتولى العرب بأنفسهم كتابة وتأويل تاريخهم وحضارتهم بلغتهم ومنظورهم الثقافي، بدل الاعتماد على تفسيراتٍ غربية تتعامل مع تاريخ الجزيرة بوصفه هامشًا للحضارات الأخرى.
واستعرض المتخصص في الحضارات الشرقية واللغات الجزرية مراحل تطور الكتابة التاريخية منذ الخطّ المسماري في بلاد الرافدين والهيروغليفي في مصر، وأن انهيار الحضارات القديمة وغزو الفُرس لبابل سنة 539 ق.م أدى إلى تحوّلٍ لغويٍّ واسع فرض فيه الفُرس لغتهم على الشعوب الرافدينية، وذلك ما أسهم في طمس كثيرٍ من المرويات الأصلية، وأن الكتابة التاريخية فعلٌ حضاريّ يعبّر عن هوية الأمة، وأن على الباحثين العرب إعادة قراءة تاريخهم بمناهج نقديةٍ تستند إلى اللغة، والأثر، والإنسان.
واختُتمت الندوة بتفاعلٍ من الحضور الذين دعوا إلى دعم البحث العلمي في اللغات القديمة والآثار بوصفها مفاتيح لفهم جذور الحضارة الإنسانية.
يذكر أن معرض الرياض الدولي للكتاب اختتم فعالياته يوم السبت 11 أكتوبر الجاري، بعد عشرة أيامٍ شهدت حضورًا جماهيريًّا كبيرًا، وفعالياتٍ ثقافية ثرية تعزز مكانة المملكة وعاصمتها الرياض بوصفها مركزًا للثقافة وصناعة الكتاب في المنطقة.


