أكّد الدكتور محمد باسل الطائي، أستاذ الفيزياء الكونية، أنّ النهضة العلمية والحضارية العربية ممكنة إذا قادتها المملكة العربية السعودية: “المملكة تمتلك الإمكانات المادية والبشرية لقيادة مشروعٍ علمي عربي متكامل، قيادتها حكيمة ومتوازنة، وإذا قويت المملكة، قويت الأمة العربية كلها، لأن خيمتها الواسعة تظل الجميع وتحميهم”.
جاء ذلك خلال ندوة “الكون والفيزياء”، ضمن البرنامج الثقافي لمعرض الرياض الدولي للكتاب 2025م الذي تنظمه هيئة الأدب والنشر والترجمة.
وأضاف الطائي أنّ المستقبل العلمي في المنطقة يتطلب الاستثمار في التعليم النوعي والبحث العلمي، وتشجيع المواهب الشابة: “نحتاج إلى جيلٍ يقود التقدم بدافع الشغف لا الوظيفة. كثيرٌ من الدول تملك الإمكانات، لكن القلة تملك الرؤية، والمملكة تمتلك الاثنتين”.
وحول الشرارة الأولى التي دفعته إلى الاهتمام بعلم الكون، أوضح أن والده كان ميكانيكيًّا متقنًا لعمله، وأنه تعلم منه الدقة وحبَّ الاكتشاف: “كنت أراقب والدي وهو يعمل بيده في إصلاح الأجهزة، وكنت أستمتع بطريقة تفكيكه للأشياء وإعادتها إلى العمل، من هنا بدأت محاولاتي لتصنيع أدواتٍ بسيطة، فصنعت وأنا في الثالثة عشرة تلسكوبًا صغيرًا بيدي باستخدام عدساتٍ ومواسير كرتونية، ومن تلك اللحظة بدأ انجذابي نحو علم الكون والكواكب”.
وبيّن أنّ العراق في تلك الحقبة احتضن مبادرةً حكومية رائدة هي مراكز الرعاية العلمية للشباب، موضحًا أنها كانت تتيح للطلاب تعلّم العلوم على يد أساتذة متطوعين.
وتابع: “كنا نتعلم التجارب العلمية مساءً بعد المدرسة، وكانت المراكز تتيح أدواتٍ بسيطة لكنها فتحت لنا آفاقًا كبيرة، وهذه التجربة أتمنى أن أراها في المملكة اليوم، لأن حماس الشباب السعودي كفيل بإنتاج جيلٍ علمي مبدع إذا وُجدت بيئة مماثلة”.
وتحدث عن مراسلاته في مرحلة المراهقة مع وكالة الفضاء الأمريكية ناسا والمكتب الإعلامي لوكالة الفضاء السوفييتية: “كنت أراسل ناسا وأطلب منهم مواد تعليمية، فكانوا يرسلون لي كتيبات ومخططات وبرامج رحلات أبولو، ما حفزني على تصميم مشاريع فضائية افتراضية، كانت برامج تحاكي مراحل إطلاق مركباتٍ تدور حول الأرض والقمر”.
وأفاد بأنه انتقل من الهواية إلى التخصص العلمي بدراسة الفيزياء في جامعة الموصل في السبعينات، حيث بدأ اهتمامه بالنظرية النسبية لأينشتاين: “كنت أقرأ كتبًا مترجمة عن النسبية، ثم طورت لغتي الإنجليزية لأتمكن من قراءة المراجع الأصلية، في السنة الثانية من الجامعة ألّفت كتابًا بعنوان (مدخل إلى النظرية النسبية الخاصة والعامة) من 340 صفحة، وألقيت محاضرة بالإنجليزية أمام أكثر من مئتي طالب وعشرين أستاذًا، منهم عميد الكلية ورئيس الجامعة”.
وكشف أن تلك المحاضرة كانت نقطة تحولٍ في مسيرته العلمية، إذ منحه رئيس الجامعة مكتبًا خاصًّا لمتابعة أبحاثه، بعدما علم أن الطائي كان يعيش في بيتٍ صغير مع عائلته الكبيرة ولا يملك مكانًا للدراسة، مضيفًا: “أدرك رئيس الجامعة أن البيئة تصنع العالِم، ومنحني مكتبًا ومفاتيحه في السنة الأولى، وبقيت أعمل فيه حتى تخرجي، وهو ما مكنني من إنجاز كتابي في تلك السن المبكرة”.
وقال: هذه التجربة تجسد أهمية رعاية المواهب وتوفير القدوة والدعم المؤسسي للشباب، موضحًا أن القدرات الذاتية وحدها لا تكفي من دون بيئةٍ محفزة.
وانتقل الحديث إلى الجانب الفلسفي في مسيرته، إذ ذكر الطائي أنه بدأ الاهتمام بعلاقة العلم بالدين بعد حصوله على الدكتوراه “حين درست موضوع خلق الكون بدأت أرى أن المسألة تتجاوز الفيزياء البحتة إلى أسئلةٍ أعمق حول الوجود والسببية، كنت أقرأ في الفلسفة المادية والوجودية، ثم اكتشفت أن الفكر الإسلامي القديم يحتوي على مادة علمية وفلسفية غنية”.
وبيّن أنّه وجد في كتب المسلمين أفكارًا تسبق مفاهيم فيزيائية حديثة، مثل الذرّية، وتجدد الخلق، والسببية.
وزاد: “استفدت من علم الكلام الإسلامي في بناء تصورٍ فلسفي للطبيعة يواكب الفيزياء الحديثة، لكنني لا أتبنى مذهبًا محددًا، وأعمل على فهم التراث بمنهجٍ علمي نقدي”.
وعند سؤاله عن أكثر الظواهر الكونية التي تثير دهشته، أجاب: “أعجب ما في الكون أنه يمكن أن يُفهم. قال أينشتاين: الشيء الأكثر غموضًا في الكون هو أنه قابل للفهم، هذا في حد ذاته إعجاز، أن يستطيع الإنسان فهم الكون بالرياضيات والمنهج العلمي”، لافتًا إلى أنّ هذا الفهم يعزز الإيمان.
ودار الحوار حول موقع الإنسان في هذا الكون الواسع، فقال: “إذا نظرنا إلى عدد المجرات، سنجد أكثر من 350 مليار مجرة، وفي كل مجرة مئات المليارات من المنظومات الشمسية، مقارنةً بذلك، يبدو الإنسان ضئيلاً جدًا، ومع ذلك فهو الكائن الوحيد الذي فهم هذا الكون الهائل”، مشيرًا إلى أن بعض الفلاسفة الماديين يشبّهون الإنسان بالبكتيريا التي تظن أن الأمعاء خُلقت من أجلها، قائلاً: “هذا التشبيه خاطئ، لأن الإنسان ليس كائنًا غافلًا، بل هو من أدرك بعقله تاريخ الكون الممتد 14 مليار سنة، وعرف مراحل تكوّن النجوم والمجرات. هذا وحده دليلٌ على عظمة العقل الإنساني”.
وأكد على أنّ الإنسان قادرٌ على الجمع بين التواضع أمام عظمة الكون والثقة بعقله الذي وهبه الله له، قائلًا: “العلم لا ينتقص من مكانة الإنسان بل يرفعها، لأنه يكشف له موقعه الحقيقي في هذا البناء الكوني”.


